وطأت قدماه الأرض أخيرا.. رغم إنتشائه الأول بتحليقه في السماء ، إلا أن أرضا أخرى يخطو فوقها كانت حلما أقصى .. باريس ، و النور ، و إشراقة مختلفة كليا ً؛ يملؤها بنظرات راغبة مشتاقة.
قديما ، تعلم كيف يتلصص، و يسرق بنظراته ما ليس له .. أما في تلك الأرض فما عليه إلا أن يرضي عينه المريضة كما يشاء .. و بلا حساب !
كان فنانا ً ، لم ير أحد له رسما ً إلا و أقر بذلك .. موهبة فطر عليها طبيعياً ، و أثقلها حبه للتميز، و رغبته في إجادة هذا الفن . كان يرى باريس اختيارا ً مناسبا ً له بسبب الدراسة الفرنسية التي تلقاها ، و معرفته بصديقة فرنسية ، تعرف إليها خلال زياتها لأحدى المعارض التي قامت بها كليته، بحكم دراستها للفن .. و كان يهرب ! كان شخصا يستطيع أن يهرب من جلده .. و علمته طول عشرته للألوان كيفية التلون بألف لون و لون ..كالكيان الضائع ، يريد أن ينتسب بأي شكل لشيء غريب عنه ، و غريب عن معرفته ..
و عادة لا يفتح أي مجتمع صدره لغريب ، حتى لو ظهر عكس ذلك .. يظل دائما وأبدا ذاك المجتمع غريبا عنك .. لكنه حسب عكس ذلك ، كان يعد نفسه كمرض خبيث لا يدخل جسد إلا و و قد استشرى في كل إنحائه ، و يتمسك بالبقاء .. و كم كان غريبا و غير تقليديا أن يشبه أحدهم نفسه بالمرض .. لكن هو أعجبه ذلك ، و فخر به .. و فوق هذا و ذاك ؛ حرص عليه !
و تمر به الأيام جديدة عليه ، يحاول ألا يبدو كقروي ساذج .. يتعارف إلا هذا ، و ذاك ، و تلك .. و كثير من النفاق و معسول الكلام و التدليل لتثبت له قدما على تلك الأرض . و خلال أيام قليلة وجد نفسه يعمل في مسرح من مسارح باريس .. مارس التمثيل ، و قد امتلك موهبة لا بأس بها ، و مارس فنه في صنع ملصقات للعروض و خلفيات المسرحيات .. كثيرمن الموهبة ،و كثير من التوسط ، و صار شيئا يذكر.
و بلا قيود و لا مسائلة لازم الملاهي الليلية كملازمته لاسمه .. حياة فارغة ، و بلا قيمة ملأها بمعاقرة ثلاث : القمار ، و الخمر ، و النساء .. هكذا تصير الحياة : من طاولة إلى طاولة ، و لكل طاولة كؤوسها ، و كل كأس بين ذراعين مختلفين .. إنها الحرية : تلك النغمة التي يمطها كل على حسب عزفه المنفرد !
هكذا اكتملت دائرة حياته !!
***************